الصراط

الصراط 


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:    
إنّ من الأمور الغيبيّة التي جاء النصُّ بها: أمرُ الصراط في عرَصات القيامة وأنه حقّ لا مريةَ فيه.    
قال الإمام الطحاويُّ رحمه الله تعالى: «ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض، والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب، والصراط، والميزان».    
قال شارح «الطحاوية» رحمه الله تعالى: «قوله «والصراط» أي: ونؤمن بالصراط، وهو جِسرٌ على جهنّم».    
وأمّا صفات الصراط:    
فقد جاء في النصوص صفاتٌ كثيرةٌ، فمن ذلك: ما رواه أبو سعيد الخدريُّ رضي الله تعالى عنه قال: قلنا: يا رسولَ الله، ما الجسر؟ قال: «مدحضةٌ مزلّة، عليه خطاطيفُ وكلاليبُ وحسَكةٌ مفلطحةٌ لها شوكةٌ عقيفةٌ تكون بنجدٍ يقال لها: السعدان» أخرجه البخاري.    
وعنده من رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبيِّ ج أنه قال: «وبه كلاليبُ مثل شوك السعدان، أما رأيتُم شوكَ السعدان؟». قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «فإنها مثل شوك السعدان، غيرَ أنه لا يعلم قدْرَ عِظَمها إلا الله».    
وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في حافَّتي الصراط طلاليبُ معلّقة، مأمورةٌ بأخذ من أُمِرت به»    
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والصراط كحدِّ السيف، دحضٌ مزلّةٌ». أخرجه الحاكم والطبراني.    
يتبيَّن من مجموع هذه الأحاديث: أنّ الصراط مدحضةٌ مزلّة، يعني مزلقة، وعليه خطاطيفُ وكلاليبُ، والخطاطيفُ: جمعُ خُطّاف، وهو الحديدة المعوجَّة يختطفُ بها الشيءُ، والكلّوب هو: الذي يتناول به الحدّاد الحديد من النار.    
وعلى الصراط حسَكةٌ مفلطحةٌ، يعني عريضة، وعقيفاء: معوجّة.    
والصراط أحدُّ من السيف.    
وأمّا مرور الناس على الصراط فيتفاوتون تفاوُتًا عظيمًا، فقد ورد عنه ج أنه قال: «فمنهم من يمرُّ كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمُرُّ كالرِّيح، ومنهم من يمُرُّ كالطرف، ومنهم من يمُرُّ كشدِّ الرجل..». أخرجه الحاكم والطبراني.    
وعن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه عن النبيّ ج أنه ذكر الصراط فقال: «فيمُرُّ المؤمنون كطرف العين، وكالبرق، وكالرِّيح، وكأجاويد الخيل والرِّكاب...» الحديث، أخرجه الشيخان.    
أمّا أقسام الناس على الصراط في الجملة فعلى أقسام ثلاثة:    
قسمٌ يمُرُّون بسلام.    
وقسمٌ تخدشُهم الكلاليب لكنهم يجوزون الصراط.    
وقسمٌ يسقطون في النار.    
يشهدُ لذلك قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فناجٍ مُسَلّم، وناجٍ مخدوش، ومكدوس في نار جهنّم». أخرجه البخاري.    
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فناجٍ مُسَلّم، ومخدوش مكلَم، ومكردس في النار». أخرجه ابن أبي عاصم.  
وفي رواية عند ابن ماجه: «فناجٍ مُسَلّم، ومخدوج به، ثم ناج ومحتبس به، ومنكوس فيها»( ).    
ومن البشائر لهذه الأمّة أنّ نبيَّها أوّل من يَجوز من الأنبياء، وأنها أول الأمم جوازًا على الصراط.    
قال صلى الله عليه وسلم: «فيُضرَب الصراط بين ظهراني جهنّم، فأكون أوّل من يجوز من الرُّسل بأمّته». أخرجه البخاري.    
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويُضرَب الصراط بين ظهرَي جهنّم، فأكون أنا وأمّتي أولَ من يُجيزها». أخرجه الشيخان، واللفظ للبخاري.    
وفي هذا الموقف العصيب يقفُ الأنبياء عليهم السلام على جَنَبتي الصراط وأكثر قولهم: اللهمّ سلّم سلّم. أخرجه ابن أبي عاصم.    
وقد ضلّ أقوامٌ عن سواء السبيل فأنكروا حقيقةَ الصراط، وزعموا أنّ المراد به: طريق الجنّة والنار، وهذا تحريفٌ للكَلِم عن مواضعه وتكذيبٌ لما جاء في صريح السنّة.    
وبكلّ حال؛ فالصراط حقيقةٌ لا شكّ فيها ولا ريب، فالشرع جاء بما تحارُ فيه العقول لا بما تُحيلُه، وأمّا تأويلاتُ هؤلاء وتعسُّفاتُهم فكما قال عنها بعض أهل العلم: كلامٌ تنبو عنه الأفهام وتمُجُّه الأوهام.    
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: «والصراط حقّ يوضع على شفير جهنّم ويمُرُّ الناسُ عليه..».    
قال الحكَمي رحمه الله تعالى:    
«ويُنصَب الجِسرُ بلا امتراء كما أتى في مُحكَم الأنباء    
يجوزُه الناسُ على أحوال بقدر كسبهم من الأعمال    
فبين مُجتازٍ إلى الجنان ومُسرِفٍ يُكبُّ في النيران»    
وإذا اعتقد العبد حقيقةَ الصراط وأنّ الناس سَيَرِدونه لا محالةَ كان لزامًا على المسلم أن يستحضر فزعَ ذلك الموقف، وأن يأخُذ حِذره حتى لا يكونَ ممَّن تزِلّ بهم الأقدام.. فيستشعر ذلك الموقف ليزداد إيمانُه بعظمة الله وعظيم تدبيره وشأنه، وأنه ﴿ يخلق ما يشاء ويحكُم ما يريد ﴾... وليُكثِر المسلم كذلك من فعل الخيرات ويحذر السيِّئات وليكون على بيِّنة من أمره.    
وإنّ من علامة توفيق الله تعالى لعبده: أن يُحبِّب إليه الإيمان ويرزُقه حلاوتَه والتنعُّم به، فلذلك ثمراتٌ وآثار، وعلى ذلك فللإيمان بالصراط ثمراتٌ وثمرات.    
فمن ثمرات الإيمان بالصراط: الإيمان بالمغيَّبات التي أخبر الشرعُ عنها، وكذلك الانتظام في سلك السلف الصالح في هذا الأمر.    
ومن الثمرات أيضًا: أنّ من سلك الصراط المستقيم في الدنيا رزقه الله تعالى عُبورَ الصراط في الآخرة.    
ومن الثمرات أيضًا: زيادة الإيمان، فكلّما كان العبدُ مسَلِّمًا مستسلمًا لما جاء في النصوص كلما كان ذلك من أسباب زيادة إيمانه.    
اللهمَّ اسلُك بنا صراطَك المستقيم في الدنيا، واجعلنا على صراط الآخرة ممَّن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون .