مناهج الإصلاح 3

مناهج الإصلاح 3

مناهج الإصلاح 3  

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله  أما بعد:   

تقدم في المقالين السابقين أن ضعف شوكة الأمة ، ووهنها في قلوب أعدائها ، كان بسبب بعدها عن المنهج الصحيح الذي سنّه لها نبيها، فعندما فرطت  كثير من مجتمعات المسلمين في السير على خُطى المنهج النبوي، كان من نتيجة جرّاء ذلك نشوء البدع وسرعة تكاثرها ونموها، بل وإخماد السنن وإماتتها، فراجت البدع العقدية والتعبدية بشتى الأنواع ، ورفعت راياتها، وكانت لها سوق رائجة في عقائد الناس وعباداتهم ومساجدهم .ومع هذا كله كان للحق صوت ينادي ، فالخير باق في أمة محمد    ودعاة الإصلاح كثير، إلا أن الميزان الذي يتميز به الصواب من الخطأ ، هو عرض أساليب الإصلاح على نصوص الكتاب والسنة .  

والشرع ميزان الأمور كلها                       وشاهد لفرعها وأصلها  

ولما كانت وظيفة الإصلاح هي الوظيفة التي قام بها الرسل ، كان لزاماً على من أراد الإصلاح أن يجعل نصب عينيه قوله تعالى متَّبع لا مبْتَدع قال الإمام البَرْبَهَاريُّ – رحمه الله تعالى - ( واعلم رحمك الله أن الدين إنما جاء من قبل الله تبارك وتعالى ، لم يوضع على عقول الرجال وآرائهم ، وعلمه عند الله وعند رسول الله، فلا تتبع  شيئاً بهواك ، فتمرق من الدين ، فتخرج من الإسلام ، فإنه لا حجة لك ، فقد بين رسول الله لأُمته السنة وأوضحها لأَصحابه  ، وهم الجماعة ، وهم السواد الأعظم، والسواد الأعظم: الحق وأهله ) (1)    شـرح السنـة .  

وقال – رحمه الله تعالى – أيضاً : ( فانظر – رحمك الله – كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة ، فلا تعجلن ، ولا تدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر : هل تكلم به أصحاب رسول الله أو أحد من العلماء فإن وجدت فيه أثراً عنهم فتمسك به ولا تجاوزه لشيء ، ولا تختر عليه شيئاً ،  فتسقط في النارر) (1)   

وعوداً على بدء يقال: إن الطريق الأمثل، بل الأوحد، الذي يجب أن يسلكه من أراد الإصلاح لنفسه ومجتمعه هو : أن يسير على وفق ما تقتضيه الأدلة الشرعية ، كما كان عليه الرعيل الأول من الصحابة والتابعين ، ومن نحى نحوهم ونهج سبيلهم من السلف الصالحين وأئمة الدين ولما كانت وظيفة الإصلاح من أشرف الوظائف ، وأعظمها قدراً، أصبحت مشاعة لدى الكثير من الناس، فقام آحاد من الناس وجماعاتهم ، فسلكوا سبيل الإصلاح، إلا أن كثيراً من أولئك جنحت بهم آراؤهم، فحادوا عن طريق الصواب بل إن المصيبة والطامة أن جماعات ممن زعموا الإصلاح ، ضربوا بالأدلة الشرعية عرض الحائط، ولم يُلقوا لمفهومها بالاً، بل ضلوا وأضلوا كثيراً عن سواء السبيل وقد تلطخت صفحات التاريخ بسيرة الخوارج الذي استباحوا الدماء، وأحدثوا الفوضى والتصدع في كيان مجتمع الإسلام ، بقصد الإصلاح زعموا .ولما كانت هذه الأمة أمة الخير والفلاح، ظهر فيها المصلحون الناصحون الأخيار ، واجتهدوا في نصحهم لمجتمعاتهم وأممهم، قامت تلك الثلة المباركة، واستفرغوا جهدهم ووسعهم في إزالة ما يكدر صفاء الإسلام، فكتبت أقلامهم ، ونطقت ألسنتهم ، وشهدت محاريبهم ومنابرهم بصادق نصحهم وتحذيرهم لمجتمعاتهم ونظراً لاتساع رقعة بلاد الإسلام، فقد كثرت تلك الدعوات الإصلاحية، وكان لكل دعوة أتباع ومناصرون ومؤيدون .ومع اجتهاد أولئك المصلحين، وحرصهم على نشر الخير في أوساط مجتمعاتهم عن طريق دعواتهم الإصلاحية، جنحت بعض تلك الدعوات الإصلاحية عن طريق الصواب في بعض أهدافها وسعيها، وكان سبب ذلك:   

الاعتماد على الأفهام الخاصة لمنظِّريها دون الرجوع إلى ماكان عليه سلف الأمة ، ناهيك عن قصور بعض أرباب تلك الدعوات في جانب العلم الشرعي (1) شـرح السنـة .  

ومما عُلِم وتقرر: أن ذكر الأخطاء ليس هضماً للإيجابيات مطلقاً بل هو تنبيه وتقويم ؛ ليكون المرء على بينة من دينه ، بحسب المصالح الشرعية شاهد المقال .. أن بعض تلك المناهج الإصلاحية داخلها خلل واضح ، فمن ذلك مثلاً:  

أن بعض المناهج غلّبت جانب التعبد والرقائق، وكان ذلك أبرز ما في دعوتهم ، بل كان جلّ اهتمامهم ينصب على تربية النفوس، وذلك على الإكثار من التعبد والتزهد والضرب في الأرض، ففرطوا على حساب ذلك في أمور عقدية، لم يكن لها نصاب في دعوتهم ، ناهيك عن عدم التركيز على الانطلاق من مبدأ العلم الشرعي، فدخلت عليهم البدع والأخطاء من أبواب كثيرة، مما جعل كثيراً من المنتسبين لذلك المنهج يعتقدون صحة ما هم عليه، فضلاً عن دعوتهم إليه، ومدافعتهم عنه، وهذا مما لاشك ولا ريب فيه أنه نتيجةُ البعد عن الهدي النبوي على صاحبه أتم الصلاة والتسليم ولذا يوجد في كتبهم ورسائلهم ما لا يمتّ إلى السنةّ بصلة، بل هو إلى البدعة أقرب الله نسأل أن يهديهم إلى سواء السبيل .وعوداً على بيان خلل بعض المناهج الدعوية يقال:  

لقد جنحت بعض المناهج الإصلاحية إلى قضية الكم دون الكيف، فسعت جاهدة إلى تكثير سوادها، دون تمحيص ونظر دقيق فترتب من جرّاء ذلك غض الطرف عن انحرافات عقدية وأمور بدعية، زعماً منهم أن إثارة تلك الأمور والنكير عليها يسبب الفرقة والتناحر، ونحن بحاجة إلى التكاتف والتعاضد .هذا مقتضى منهجهم، وقد ترتب من جرّاء ذلك تمييع كثير من القضايا العقدية، وغض الطرف عن بعض أصحاب الانحراف العقدي كما جنحت مناهج أخرى إلى الاهتمام بدارسة واقع الأمة وتشخيص الخطر المحدِق بها وهذا مما لاشك فيه مطلب شرعي، إلاّ أن المأخذ هو تغليب هذا الجانب على حساب جوانب أخرى أهم منه، وكذلك علاج بعض تلك القضايا الواقعية بعواطف جيّاشة عرية من العلم الشرعي ، مما يترتب عليه إضاعة الجهود ، بل قد تكون تلك العواطف سبباً لولوج الإثم بسبب الأعراض عن النصوص الشرعية ومقتضاها في علاج تلك الوقائع  

شاهد المقال .. أنه غلب على كثير من أفرادها تغليب العواطف الجياشة والانفعالات الحماسية مما اضرَّ كثيرا وأعظم من هذا كله التزهيد في علماء الأمة الراسخين، والتقليل من شأنهم بدعوى عدم مواكبة الأحداث والمتابعة لواقع الأمة ، بينما ترى أولئك يعظمون أفراد من الناس عندهم خلل عقدي خطير ، وليت الأمر – على شناعته – وقف عند هذا ، بل جعلوا أولئك الأفراد أئمة هدى ودعاة حق وسنة .وهنا يعجب المرء كيف كان أولئك دعاه سنّه مع ما هم فيه من الخلل العقدي مع اتهام علماء السنة بالخذلان والمداهنة إذا لم يكونوا موافقين لهم ، وهذا شيء عجيب .لكن هذا العجب يزول إذا علمنا أن القاسم المشترك الذي يجمعهم هو الثورة والسخط على واقع الأمة ، وأنه لا تغيير لحال الأمة إلاَّ بسلوك سبيلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع .الله نسأل أن يبارك في جهود المصلحين ، وأن يرد المخطئين إلى الحق رداً جميلاً .اللهم ارزقنا حب السنة وأهلها ، وارزقنا بغض البدعة وأهلها .