تربية الأبناء بين الواقع والمأمول
تربية الأبناء بين الواقع والمأمول
فاتقوا الله – عباد الله – واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واعلموا أن الله عز وجل قال في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [التحريم: 6]، وروى ابن جرير أن ابن عباس رضي الله عنهما قال في معنى الآية: اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله ومروا أولادكم بامتثال الأوامر واجتناب النواهي فذلكم وقايتهم من النار، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول في معناها: علمّوا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم .
إن من أعظم المنن وأتم النعم التي امتن الله تعالى بها على عباده نعمة (الولد) فقد وصف الله الولد بأنه زينة الحياة الدنيا فقال (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ) [الكهف: 46]، ووصف الله الولد بأنه فتنة فقال: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28]، وقد فطر الله النفوس على حب الولد والتعلق به، ووطّن الله القلوب على التأسف الشديد عند إصابته بأدنى مكروه فها هو يعقوب عليه الصلاة والسلام ابيضت عيناه من الحزن حين أعلمه أبناؤه بموت ابنه يوسف، وها هو نبينا صلى الله عليه وسلم صاحب القلب المشفق والصبر العظيم يحمل على ظهره وهو يصلي الحسين وهو يشفق عليه ألا يسقط وهو نفسه عليه الصلاة والسلام تدمع عينه لفقد ابنه إبراهيم وحين سئل عن ذلك قال: (إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) رواه أبو داود من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .
لا يوجد إنسان إلا وهو يطلب من ربه صلاح الذرية وقرار العين بها في الدنيا والآخرة قال الله تعالى عن وصف المؤمنين عبادُ الرحمن {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، أي ما تقر العين بهم لصلاحهم المتمثل في الصلاح الديني والاستقامة على طاعة الله عزوجل واجتناب ما حرم الله تعالى، وليعلم أن صلاحهم سببٌ لكثير من الخيرات على الوالدين من حيث لا يشعرون، فصلاحهم سبب لجريان الحسنات للوالدين بعد موتهما فهما رصيدٌ مدخر وعاريةٌ مضمونه، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له) رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وإصلاح الذرية سبب للنجاة في الآخرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) التحريم:6، وصلاح الذرية سبب لتخفيف الحساب، فالله سائلٌ كل إنسان عمّا استرعاه حفظ أم ضيع؟، قال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع ومسؤول عن رعيته فالرجل راع ومسؤول عن رعيته....) رواه البخاري في الأدب المفرد من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، وصلاح الذرية سبب لإبعاد النار عن وجهك يوم القيامة ففي الحديث المتفق عليه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ابتلى من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار)، فهذه الثمرات وغيرها كثير ينبغي أن تكون دافعاً وحافزاً للإنسان لأجل أن يحرص على إيجاد أبناء وبنات بررة تقر بهم عينه يوم لقاء ربه وقبل ذلك تقر عينه بهم في الدنيا .
إن أول وسيلة لإيجاد أبناء صالحين هو في صلاح الوالدين وكونهما قدوة صالحة لأولادهما فصلاحهما وامتثالهما بأن يكونا قدورة صالحة سبب عظيم لصلاح أولادهما وحفظهما في حياتهما وبعد موتهما .
قال الله تعالى في قصة الخضر وموسى في خبر الغلامين:ٍ{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]
قال ابن عباس رضي الله عنهما: حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر لهما صلاحاً .
فهذا يجلي لنا أن أول خطوة لصلاح الأبناء هي في صلاح الوالدين ومحافظتهم على الصلاة جماعة، وامتناعهم عن المعاصي، وعدم أكل الربا، وعدم التعرض لحرمات المسلمين والنيل من أعراضهم، وعدم الورود على أماكن المنكرات، وعدم الإساءة إلى آباءهم وأمهاتهم والتقصير في حقهم فكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل، فهذه الأعمال وهذه المنكرات واحدةً منها كفيلة بهدم بنيان الأسرة وتفتيت علاقاتها مع بعضها، فكيف باجتماعها عياذ بالله تعالى !!
إن من أعظم جوانب التقصير في هذه الأوقات التي نعيشها ضعف مراقبة الأبناء والتقصير عن متابعتهم، فبعض الآباء والأمهات بلغ به التفريط في حق أبنائه إلى الدرجة التي لا يدري أين يذهب ابنه ومن أصحابه وزملاؤه؟ ولا يعلم أين تذهب ابنته؟ ومع من تصاحب؟
لا شك أن الرقابة إذا كانت مهمة في السابق فهي في هذا الزمن أهم وأشد تأكيداً، سيما مع كثرة الملهيات والمفسدات، وكثرة قرناء السوء ممن يفسدون ولا يصلحون ويهدمون ولا يبنون .
ويجب أيضاً على أولياء الأمور أن يهتموا بإشغال أبنائهم فيما يعود عليهم بالنفع، سيما في زمان الفراغ القاتل من خلال إشراكهم في حلقات القرآن الكريم والحضور معهم إلى مجالس الذكر والخطب وإشراكهم في بعض المراكز الربيعية التي ينهل منها الأبناء ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، مع ما في هذه المراكز من احتكاكه بالصحبة الصالحة التي تعينه على نفسه وتأخذ به إلى المعالي وسمو الأخلاق وتبعده عن دنس أصحاب السوء، ومزالق شياطين الإنس، ولا ينبغي للأب أن يكون أنانياً في كل شيء فبعض الآباء يشح على أبنائه بوقته فهو يريد أن يذهب ويأتي ويضحك ويمرح ويسافر ويسهر دون أن يكون لأبنائه وأهله من وقته نصيب .
أيها الآباء والمصلحون والمربون: اعلموا رحمكم الله أن من شب على شيء شاب عليه، فمن نشأ ولده على الدين والمثل العليا في الصغر سُرَّ به والده في الكبر .
واعلموا أن أمامكم اليوم خطراً عظيماً وغزوا هائلاً متستراً ببعض الثقافات لهدم عقائد الجيل وأخلاقه، وما لم نسعَ في حياطتهم بسياج الدين والقيم وغرس ذلك في نفوسهم ستكون النتيجة وخيمة والضرر بالغ ليس على الوالدين فحسب، بل على المجتمع والأمة بأسرها .
إن تربية الأبناء ليست مسؤولية الخدم ولا هي مسؤولية المدارس والجامعات بالدرجة الأولى، بل المسؤولية الأولى هي مسؤولية الوالدين والأسرة بالمقام الأول، وهذا الأمر يدركه الجميع من شرعيين وتربويين ونفسانيين وإعلامين وأمنيين .
فتعاهدوا أولادكم بالنصح المستمر والتوجيه الدائم وليكن لكم في سلفكم القدوة والهداية، ومن عجيب وصايا الآباء لأولادهم وصية زين العابدين علي بن الحسين رحمه الله لابنه محمد حيث قال له: "لا تصحبن خمسة ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق: لا تصحبن فاسقاً فإنه يبيعك بأكلة فما دونها، قلت يا أبت وما دونها؟ قال: يطمع فيها ثم لا ينالها ولا تصحبن البخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه، ولا تصحبن كذاباً فإنه بمنزلة السراب يبعد عنك القريب ويقرب البعيد، ولا تصحبن أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك وقد قيل: عدو عاقل خير من صديق جاهل، ولا تصحبن قاطع رحم فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله ".